Saturday 7 June 2008

الحريـة والعــدل



23-جماد ثاني-1425 هـ:: 10-أغسطس-2004

مولاي إسماعيل ولد الشريف
الحرية مطلب سام تهفو إليه النفوس الأبية وتسترخص في سبيل نيله كل غال وعزيز. وهي اسم من حر يحر حرارا، إذا عتق، ومعناها الخلوص والانعتاق من الرق؛ وشرعا: خلوص حكمي يظهر في الآدمي لانقطاع حق الغير منه.
ولن أطيل كثيرا حول هذا الموضوع الذي طالما كتب عنه الكاتبون وتكلم فيه المتكلمون، وإنما لدي نقاط أرجو أن تكون إضافة جديدة في هذا الملف القديم الجديد، وهي كما يلي:
• يرى كثير من الكتاب أن الإسلام دين الحرية والمساواة ويطلقون ذلك دون تعريف أو تحديد لهذا المصطلح، بل ربما قال بعضهم: إن الإسلام يساوي بين المرأة والرجل وقد نجد من يسوى بين المسلم والكافر!! ولاشك أن الإسلام دين العدل والبون شاسع بين العدل والمساواة، ففي كثير من الأحيان تحرم المساواة لبعدها عن العدل، فهل يجوز أن نسوي بين الحق والباطل؟ وبين الجميل والقبيح ؟ وبين المنتج والكسول؟ وبين المسلم والكافر …، وهل تستوي الكآبة والابتهاج؟ أم هل نسوي بين العالم والجاهل ؟ {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ،{... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألْبَابِ}، وفي جانب الفرد والأسرة: هل التسوية بين الأبناء في قدر الطعام والشراب واللباس - إذا كان أحدهم يلزمه أكثر من الآخرين - عدل أم ظلم؟ وبناء على هذه الفوارق لم يسو الإسلام بين المرأة والرجل في الميراث ولا في القوامة ولا في الدية مع أنه حقق العدل بينهما، وللمجتمع من خلال وضع كل فيما يصلح له وللأمة جمعاء، وأعطى كل ذي حق حقه ضمن نظام إسلامي يلزم كلا منهما بما لا يلزم به الآخر ويكلف كلا منهما بما يناسب قوته ونفسيته وبما يعود على المجتمع بنفع أكثر.
إن العلاقة بين الأفراد في المنظور الإسلامي علاقة تكامل وتعاون وإصلاح -فرغم جواز العمل للمرأة عند الضرورة - إلا أن أهم أعمالها في المجتمع الإسلامي هو رعايتها لجيل المستقبل وإيجاد السكن والرحمة داخل البيت المسلم، والواجب أن تنظر المرأة المسلمة إلى هذا العمل باهتمام بالغ لأنه عمل لا يمكن أن يؤديه غير الأم!! قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فهي آيات لكن لا يدرك الحكمة منها إلا المتفكرون. وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع، تلك الخطبة التي تعتبر أهم وثيقة عرفتها البشرية في حقوق الإنسان عامة والمرأة خاصة،: "والمرأة راعية في بيتها ومسؤولة عن رعيتها"، وطالبها بإيجاد السكن والرحمة للزوج وباقي أفراد أسرتها؛ وذلك لما حباها به من رقة ورحمة وعطف لتنشر السعادة داخل البيت وتخفف أعباء العمل عن الزوج، وتضفي على البيت الشعور بالمودة والمحبة، وهذا الجانب هو سر عظمة المرأة ومركز قوتها، وهو ما يفقده الرجل ويحتاج إليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (…مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ …). وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
يغلبن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
فإذا أدركت المرأة سر قوتها وراعت ذلك؛ انسجمت مع فطرتها وأكملت نقص الرجل، وبذلك يقوم كل من المرأة والرجل بما وجب عليه فيحصل التكامل؛ ويشعر كل بأهمية واجبه في بناء الأسرة، ومن ثم بناء المجتمع، وبذلك يتعاونان على إقامة شرع الله داخل البيت من أمر بالصلاة والصيام وقراءة القرآن وتعليم الأبناء الواجبات الشرعية، وتأديبهم على مكارم الأخلاق من خلال الكلمة الطيبة والقدوة الحسنة؛ ومن خلال تعليم تراجم السلف وأولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وصحابته الكرام؛ والآباء والأجداد وإشعارهم بأهمية الدين وتعظيمه في نفوسهم؛ وتقوية الولاء والبراء لدينهم، وتعميق علاقتهم بأمتهم الإسلامية وماضيها العريق المشرف وما يجب أن تكون عليه في حاضرها ومستقبلها حتى لا يؤثر في نفوسهم تقلب الذين كفروا في البلاد، والتأكيد على أن أمد الجاهلية قليل وأن عمرها قصير، وإبعادهم عن كل ما يضرهم، وتنبيههم على ذلك من خلال سد فراغهم بالنافع المفيد كالكتاب والشريط والمجلة؛ والتوجيه إلى برامج القنوات النافعة المفيدة والمواقع الصالحة، والتحذير من تلك الهابطة المدمرة، والحرص على اختيار الأفضل في كل شيء، مع الإكثار من الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى كما هو دأب الصالحين الذين يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} مع إشاعة المبادئ الإسلامية والأخلاق الفاضلة بين الزوجين بعضهم تجاه بعض؛ وتجاه الأبناء؛ والأقارب والضيوف، بل و المجتمع كله؛ وبهذا تصلح الأسرة المسلمة وتكون لبنة قوية في بناء المجتمع لا تتأثر بالعواصف، ولا تؤثر فيها دعوات التخريب ومؤتمرات التغريب التي تبذل جهودا مضنية من أجل إفساد الأسرة المسلمة من خلال الدعوة إلى (حرية المرأة) تارة، وتغيير المناهج أخرى، وتنصير الأبناء، وتهويدهم من خلال الأندية الكثيرة المتنوعة، مثل (بذور السلام!) والرحلات المبرمجة إلى بلاد الكفر... إلخ.
إن الحرية في شرعنا تكليف وتشريف، وأساسها التحرر من كل معبود غير الله تعالى، فكمال الحرية إنما يكون من التحرر من الهوى والشيطان بالانقياد لدين الله ومنهجه، وبخلوص التوجه لجهة واحدة ألا وهي الخالق العليم الحكيم، وكلما كان المرء أكمل في هذا كان أقرب إلى الحرية والانعتاق الحقيقي، وكل نقص في هذا يؤدي إلى نوع من العبودية وشكل من الاسترقاق لا محالة وإن توهم أصحابه خلاف ذلك! فالذين يعبدون الأوثان والنجوم والكواكب أو يعبدون شهواتهم مهما تنوعت تلك الشهوات أولئك ليسوا بأحرار، فأسير الغانية وأسير الكأس وأسير الجاه والمنصب والمال … كل أولئك عبيد وإن وصفوا بأي وصف آخر..
• علما بأن دعاة التحرر والحرية لا يريدون بهذا المصطلح إلا التحرر من الدين والقيم والأخلاق؛ ليصبح محرروهم ممن {أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أرقاء للهوى والشيطان، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ}.
والملاحظ أن كثيرا من المسلمين يتكلمون عن الحرية دون أن يفرقوا بين الحرية في المفهوم الإسلامي والغربي، وليس من العقل ولا من الحكمة، ولا من المنهجية العلمية، أن يفسر مصطلح عرفته أمة ذات دين سماوي محكم له مقاصده السامية، وذات لغة عالية في فصاحتها وبيانها وثرائها، وطبقته في حياتها على أفرادها بل وعلى أعدائها قبل ألف وأربعمئة عام بثقافة أمة ذات دين محرف وذات لغة يجهل المعاصرون الكثير من معانيها التي تعد من أعلى ما وصلت إليه على عهد (شكسبير) مثلا، وهو زمن قريب لا يقاس بشعرنا العربي ولا بأدبنا العالي قبل قرون عديدة ويفهمه جميع المتعلمين، ويدرك أغلبه أبناؤنا، وبالإضافة إلى ذلك فهي تتبع هواها فيما تدع وتذر، وتعلي من شأن الجسد على حساب الروح. إن على المسلمين أن يدركوا قيمة أنفسهم وما حباهم الله به من دين يسع الدنيا كلها ويحقق لها السعادة في الدنيا والآخرة، دين يجمع بين الأصيل ولا يضيق ذرعا بالجديد النافع المفيد.
إن العدل والحرية مفاهيم إسلامية شرعها الله وأمر بها وطبقها المسلمون على نفوسهم ومن تحت سلطانهم قبل أن تكتب قوانين الغرب ومواثيقه التي يتشدق بها نظريا بثلاثة عشر قرنا، وقد وردت نصوص كثيرة تبين حرية الإنسان ومكانته في الإسلام، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، وقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلــم: "إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن"[1].
• أو ليست حرية الغرب التي كانت تعد بها أمريكا - صاحبة تمثال الحرية، ومبادئ الحرية المشهورة - من أجل التخلص من الاستبداد والظلم والقمع في العراق وفي المنطقة كلها هي تلك الحرية التي رأيناها جميعا في أبوغريب وفي العراق كلها، ونراها يوميا في فلسطين وفي جوانتانامو، وتعرض لها إخواننا من قبل في أفغانستان والصومال والبوسنة وكسوفا، ولا يزالون يتعرضون لها، ويقتل باسمها المسلمون وتنتهك أعراض المسلمات، وتفتح مواخير الخنا والرذيلة وتشاع الفاحشة في كل مكان، نعم تلك هي حريتهم، لكن أين هي من حريتنا؟
• إن حرية الفرد عندنا معتبرة، لكنها مقيدة بحرية أخرى هي مراعاة حريات الأمة كلها في الحفاظ على دينها وأعراضها وأنسابها، ومقيدة من جهة ثانية بعبودية الإنسان لخالقه وتقيده بأوامره، فإذا ما استكبر وعصى فإن تلك الحصانة وذلك التكريم يرفع عنه بقدر تلك المعصية دون حيف أو ظلم، ويراعى ذلك من خلال الحفاظ على كليات الدين التي هي: (حفظ الدين. وحفظ النفوس. وحفظ العقول. وحفظ الأعراض والأنساب. وحفظ الأموال) وذلك لأن الاعتداء على شيء من هذه - إضافة إلى كونه معصية لله تعالى - اعتداء على المجتمع كله، فحرية الفرد معتبرة ما لم تكن على حساب حرية المجتمع.
إننا بحاجة إلى معرفة مصطلحاتنا وشريعتنا، وأعرافنا، وعدم الخلط بينها وبين قوانين الغرب الأرضية القاصرة وأعرافه الجاهلية لاختلاف الدين والقيم واللغة والعادات، وعلينا ألا ننهزم أمام بريق الحضارة المادية الغربية، ولندرك أننا نملك من القيم الروحية ما يحقق العدل للإنسان ويتلهف إليها ذلك الإنسان المادي البائس الحائر في كل مكان ولا يملك ذلك غيرنا، فهل آن لنا أن نعي هذه الحقيقة؟
عسى أن يكون ذلك، وما ذلك على الله بعزيز.


[1] رواه أبوداود في سننه في كتاب الأدب 5/ 340 رقم 5116 والترمذي في كتاب المناقب برقم 3950.


المصدر

No comments: