Saturday 7 June 2008

عمر بن الخطاب وتشريعات الأسرة




أسماء الحمود
تبرز أهمية فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الخليفة الثاني لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مدى ارتباطه بالفقه الراشدي الذي كان لها الأثر الكبير في حياة المسلمين في زمانه – رضي الله عنه – فلم تكن قاصرة على قضايا الفتوحات والدواوين وتنظيم القضاة والولاة بل امتدت بشكل بارز في قضايا المجتمع عموماً وتنظيم شؤون الأسرة خصوصاً؛ وسنفرد بالذكر منها قضيتي نكاح المتعة والتزوج من الكتابيات في هذا المقال على سبيل المثال، للتدليل على العمق الذي اتسم به فقهه وأثره على حياة المسلمين بعده.
فعندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك شيء يبيح العلاقة بين الرجل والمرأة الحرة إلا عقد النكاح بصورته الشرعية، المستلزمة لولي وشاهدين، وما يترتب عليها من عدة وميراث ونسب، ولم تكن تشريعات الأسرة نزلت في القرآن جملة واحدة بل كانت تتنزل على عدة سنوات على ما هو معروف من تدرج التشريع الإسلامي وارتباطه بمصالح الناس، واختلاف هذه المصالح باختلاف البيئات، وفي ظروف خاصة أقر الرسول صلى الله عليه وسلم – بنكاح المتعة المؤقت والذي لا يترتب عليه ما يترتب على النكاح الشرعي من عدة وميراث ونسب، وكانت هذه الظروف الخاصة من باب الضرورة الشديدة، ثم نهى صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وبالغ في هذا النهي فقال: ( أيها الناس، إني كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع بالنساء. وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً )[رواه مسلم].
فزمن إباحة المتعة لم يطل، وحرمت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، وهو ما سار عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه – إذ أنه نهى عنه وقضى عليه بعد أن كان ما بقي منه بسبب إباحته في ظروف الحرب للصحابة المغتربين عن أهلهم خشية أن يقعوا في الحرام، ثم بعد تحريمه شدد عمر استمرار هذا التحريم اتباعاً لسنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في أمره ونهيه وليس اجتهاداً صادراً من عمر، بل تأكيداً منه لتشريع صاحب الرسالة – صلى الله عليه وسلم – وهو ما يؤكده قول علي بن أبي طالب –رضي الله عنه – "نهى النبي – صلى الله عليه وسلم عن المتعة زمن خيبر".
أما في قضية الزواج من الكتابيات التي نزل فيه نص صريح في إباحته وهو قوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ) ولم يصح أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – نهى عنه، وقد فعله الصحابة، وجوزه جمهورهم، إلا أن عمر بن الخطاب بعث إلى حذيفة – بعد أن ولاه المدائن، وكثُرت المسلمات – قائلا: إنه بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب، فطلقها. فكتب إليه حذيفة: لا أفعل حتى تخبرني، أحلال أم حرام؟ وما أردت بذلك؟
فكتب إليه عمر: لا، بل حلال. ولكن في نساء الأعاجم خلابة، فإذا أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم، فقال حذيفة: الآن – أي اقتنعت- فطلقها.
فعمر كان رأيه مثل رأي جمهور الصحابة في إباحة الزواج من الكتابيات، وهو رأي جمهور المسلمين على مر العصور، لكنه أمر حذيفة بتسريح زوجته اليهودية، لأنه رأى أن العرب المقيمين في البلاد المفتوحة سوف يقبلون على الزواج من غير العربيات، فقد كان يتحرى مصلحة المجتمع الإسلامي، ولا شك في أن لولي الأمر أن يمنع من بعض المباحات، إذا رأى أن الإقدام عليها يؤدي بالمجتمع إلى مفاسد كبيرة، وهو هنا لم يلغي النصوص، أو ينسخها، لكنه أوقف العمل بها فترة من الزمن، وفي حالات خاصة، تحقيقاً للمصلحة العامة، ومن ثم يزول هذا الإيقاف بزوال ظروفه، وتبقى قدسية النصوص على مر العصور، وهذه المصلحة هي التي تتحراها الدول الآن حين تمنع بعض الموظفين من مواطنيها – مثل رجال السلك الدبلوماسي ورجال الجيش وذوي المراكز الحساسة – من الزواج من غير مواطناتهم، لأسباب تمس مصالح الدولة. وقد لا يحدث ضرر بسبب بعض هذه الزيجات، إلا أن احتمال الضرر قائم، وهذا الاحتمال يكفي وحده للمنع المطلق، وقد ثبت بالتجارب العديدة أن سد باب الاحتمال هنا أفضل كثيراً من متابعة الميول الفردية.
القضيتان السابقتان تظهران مدى أهمية منهج عمر في التشريع في قضايا الأسرة إذ في الأول حرص على تأكيد الحكم الشرعي الأصلي كي لا يتساهل فيه، وفي الثانية اجتهد في قضية مباحة من أجل المصلحة العامة، ومثلها إمضاؤه الطلاق ثلاث طلقات واعتباره نافذاً بينما كان يعتبر في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم طلقة واحدة، وذلك لأن الناس في عهده أكثروا من جمع الثلاث في لفظ واحد. فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم، ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه امرأته.
هذه اللمحات البسيطة لمنهج عمر في التشريع، هي مثال على مدى أهمية استلهام منهجه اليوم في جملة القضايا التي تحتاجها الأسرة المسلمة والاجتهاد فيها كي يكون مجرى حياتها مقتضياً مقاصد الشريعة الإسلامية التي أتت لخير البشرية في الدنيا والآخرة، ولابد من ذلك مع شدة تعقد الحياة المعاصرة وتنوع متطلباتها، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.



المصدر

No comments: